قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يرد به الله خيراً يفقه في الدين" صدق رسول الله

تعالى معي أخي المسلم نتأمل سوياً هذا الحديث النبوي الموجز ونبحث في ثناياه على ما يشمل من محتوى ونستخرج ما فيه من درر، فرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى ولا يتحدث عبثاً ولا لغوا، فلقد أوتي صلى الله عليه وسلم "مجامع الكلم" هكذا يوصف صلى الله عليه وسلم لمَّا كان لحديثه من دقة وبلاغة في التعبير وإيجاز في العرض وفصاحة ذات رونق خاص.

كلمات قليلة موجزة تحمل في طياتها جُلَّ المعاني وأشمل التعبير .. دقة وإيجاز وبلاغة – هذا هو الإعجاز ذاته.

ونعود إلى الحديث .. من يرد الله به خيراً .. يفقهه في الدين .. وعادة ما نسمع الكثير من المسلمين من عامتهم بل ومن علمائهم يستشهدون بهذا الحديث على ضرورة انشغال المسلمين بتعلم "دينهم" وعادة ما يقصدون هنا هو تعلم "الفقه" وقد قصروا مفهوم "الفقه" على فقه العبادات.

لذا نقف قليلا عند كلمة "فقه" وما المقصود بها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فالحديث يستخدم مشتقاً من مشتقاتها حين يقول يفقهه .. والمقصود هنا هو أن يصل الإنسان إلى حالة من الفهم والإدراك والفطنة. والتفقه هو الفهم العميق الشامل وإدراك الأبعاد والتملك من استيعاب جوانب الأمور.

شمولية وعمق .. إدراك واستيعاب وفطنة.

وبذا يكون الفقه هو وصول الفرد إلى هذه الحالة من الفهم الدقيق والاستيعاب الشامل، وبذا يكون فقه الدين هو تفهم أبعاد الدين واستيعاب جوانبه وشمولية وعمق هذا الفهم وهذا الاستيعاب.

والفقه اصطلاحاً عند علماء الشريعة هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية. فلما كان هذا العلم مستنبطاً من أدلة التشريع الإسلامي التي أساسها الأصلان: الكتاب والسنة، أطلق على هذا الفقه بأنه فقه إسلامي، أي أن التشريع الإسلامي هو مصدره ومستنده.

ومن ثم فإن "الفقه الإسلامي" المعروض على الساحة هو ما يقصد به أحكام شريعة الإسلام وقوانينها وحدودها .. هو ما يفصل بين الصواب والخطأ .. ما يجوز وما لا يجوز .. بين الحلال والحرام .. وبذا يغلب على هذا العرض تعريف الإطار والحدود .. والتحذير والنهي عن السقوط من حافة الإطار.

بين أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث عن فقه الدين فقه الحياة الإسلامية .. فالدين الإسلامي أسلوب للحياة .. ومن ثم ففقه الدين هو فقه المنهج والأسلوب .. فقه الغرض والمراد .. فقه الحياة الكاملة المتكاملة .. الشاملة ذات الأبعاد .. داخل الإطار الإسلامي .. وبعيداً عن حافته .. بعيدا عن الحدود.

ولا يقتصر على فقه الآليات وفقه الحدود .. يتسع ليشمل فقه الحياة ..

الحياة التي وصفها القرآن والحديث بعيدة عن المحاكم والقضاة بعيدة عن الخوف من الوقوع تحت طائلة القانون.

الحياة الآمنة العامرة بالخير والصلاح والحب والعطاء بالإخاء والمشاركة بالبذل والجهد.

الحياة الإسلامية بعيدة عن "حدود الحمى"

تعالوا معاً نتأمل بعض جهلنا بفقه الدين وسوء فهمنا لفقه الفقه

لنأخذ صورة المسلم الذي يحرص على أداء الصلاة في أوقاتها إخلاصا منه وعملا بقول الله تعالى "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً" ثم يهمل مواقيته في بعض أو سائر جوانب حياته ولا يحافظ على موعد عمل أو موعد صديق أو ما شابه .. ألم يعلم بأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وما إهماله في مواعيده إلا لون من ألوان من المنكر .. ألم يعلم أن العبادات التي فرضها الله علينا هي تأهيل لنا وتدريب وتعويد على انتهاج الأسلوب الأفضل نحو حياة إسلامية فاضلة وسعيدة .. فأين ذهبت عوائد التدريب الإلهي لنا بالمحافظة على المواعيد من خلال فرض الصلاة لنا كتابا موقوتاً. وكيف يكون هذا الفصل بين "الدين" والحياة.

صورة أخرى لمسلم يتوضأ .. حريص كل الحرص على "أحكام" الوضوء .. فيغسل أعضاءه بدقة وإتقان .. يخلل المياه إلى جلده .. ويخللها ببين أصابع قدميه .. ويسبغ هذا وذاك .. وتتدفق المياه بغزاره من صنبور وضوءه .. وتتناثر حوله في كل جانب .. ثم يهرع إلى صلاته مخلفا نواة لبركة من المياه راكدة .. ويأتي غيره وغيره وتتحول البركة إلى بحيرة .. وتصير مرتعاً للجراثيم والميكروبات .. ويتحول مكان الوضوء الذي هو مكان التأهيل للدخول في عبادة الصلاة والتمهيد للقاء الخالق رب العالمين إلى مكان كريه كئيبا .. ينفر منه كل من هو حريص على النظافة والصحة. فهل يعقل أن يقال أن هذا من فقه الدين .. نعم فهم هؤلاء مدى أهمية الحرص على اسباغ الوضوء .. ولكن ضاع منهم فقه نظافة المكان والمحافظة على الصحة العامة .. ضاع منهم فقه عدم الإسراف وفقه تأهيل الوضوء (ومكان الوضوء) لما بعد ذلك من صلاة ولقاء لرب العالمين.

وها هو أخر .. فقه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عدم الإسراف في الوضوء مع الحرص على الإسباغ فهو حريص كل الحرص على عدم إضاعة قطرة واحدة من المياه في دون حاجة. فيجب قفل الصنبور عند عدم الحاجة ولا تجد قطرة واحدة من المياه على الارض حوله .. ما شاء الله أتقن الاقتصاد في استخدام المياه وأحسن استغلال كل قطرة نزلت من هذا الصنبور.

ولكنه لم يفقه أن هذا ما هو إلا جزء من كل وبعض من كثير. فالإقتصاد وعدم الإسراف أساسي وضروري في كل شيء .. وليس في ماء الوضوء فقط .. هل أدرك هذا المسلم أهمية عدم الإسراف في قضاء الوقت فيما لا يفيد وعدم الإسراف في استخدام الإضاءة مثلا .. أو عدم الإسراف في الطعام والشراب .. هل فقه هذا المسلم ضرورة عدم الإسراف في كل شي حتى الكلام.

وهكذا..صور كثير لفقه محدود.. فقه مقصور على الأحكام والحدود ....